كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ كَافِرًا مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ، فَقَضَى عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِ».
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ مَعَ مُوَافَقَتِهَا لِظَاهِرِ الْآيَةِ تُوجِبُ مُسَاوَاةَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ فِي الدِّيَاتِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ.
قَالَ سَعِيدٌ: «وَقَضَى عُثْمَانُ فِي دِيَةِ الْمُعَاهَدِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا خِلَافَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: وَدِيَةُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» وَبِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «دِيَةُ الْمَجُوسِ ثَمَانُمِائَةٍ».
قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمْنَا حُضُورَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا عَنْهُمْ مِقْدَارَ الدِّيَةِ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَعَرَفَهُ هَؤُلَاءِ وَلَمَّا عَدَلُوا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَأَيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «دِيَةُ الْمُعَاهَدِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» وَأَنَّهُ وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ دِيَةَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ؛ وَهَذَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ لَكَانَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ أَوْلَى فَوَجَبَ تَسَاوِيهِمَا فِي الدِّيَاتِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ وَاهٍ لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ لاسيما مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} عَطْفًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَسَاوِي الدِّيَتَيْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ عَبْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَمَنْ اسْتَهْلَكَ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَسَاوِي الْقِيمَتَيْنِ.
قِيلَ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مِنْ الْمَالِ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْحُرِّ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْمِقْدَارِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَمَتَى أُطْلِقَتْ كَانَ مِنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ هَذَا الْقَدْرُ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الدِّيَةِ قَدْ أَنْبَأَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَعَطْفُهَا عَلَى الدِّيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَ تَسَاوِي اللَّفْظِ فِيهِمَا بِأَنَّهَا دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ أَيْضًا؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
بَابُ الْمُسْلِمِ يُقِيمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قَالَ: «يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَقَوْمُهُ كُفَّارًا فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَكِنْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا قُتِلَ وَلَهُ أَقَارِبُ كُفَّارٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَأَنَّ كَوْنَ أَقْرِبَائِهِ كُفَّارًا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ دِيَتِهِ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ حَيْثُ لَا يَرِثُونَهُ.
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْلِمَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَكُونُ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً فِي سَرِيَّةٍ أَوْ غُزَاةٍ، فَيَعْتِقُ الَّذِي يُصِيبُهُ رَقَبَةً».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهُ بِرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْقَرَابَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ قِيمَةِ دَمِهِ، كَسَائِرِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: «هُوَ الْمُسْلِمُ يَكُونُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُهُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَدْرِي فَفِيهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ».
وَهَذَا عَلَى أَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} قَالَ: «هُوَ الْمُؤْمِنُ يُقْتَلُ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهْدٌ أَدَّى دِيَتَهُ إلَى قَرَابَتِهِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهْدٌ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَقْرِبَاءَهُ لَا يَرِثُونَهُ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَكَيْفَ يَأْخُذُونَ دِيَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ حَرْبٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَالدِّيَةُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمُسْلِمٍ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا وَارِثَ لَهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَمُحَمَّدٌ فِي الْحَرْبِيِّ يُسَلَّمُ.
فَيَقْتُلُهُ مُسْلِمٌ مُسْتَأْمَنٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: «عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ».
وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَقْتُلَهُ رِجْلٌ مُسْلِمٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا أَنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ مِيزَابٌ عَمِلَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا.
وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا فَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً قَالَ: وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إنَّمَا كَانَ فِي صُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يُورَثْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ وَرَثَةٌ يَسْتَحِقُّونَ مِيرَاثَهُ، فَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ؛ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: «مَنْ أَقَامَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَإِنْ انْتَحَلَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَوُّلِ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فَأَقَامَ بِبِلَادِهِمْ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ يُحْكَمُ فِيهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ».
وَقَالَ الْحَسَنُ: «إذَا لَحِقَ الرَّجُلُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ بِتَرْكِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْغَارَةِ أَوْ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا عَقْلَ فِيهِ وَلَا قَوَدَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا أَوْ مُسْتَأْمَنًا أَوْ رَجُلًا أَسْلَمَ هُنَاكَ؛ وَإِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ الَّذِي يُسْلِمُ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ عَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا، أَوْ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ قَرَابَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَبِأَنْ يَكُونَ ذَا نَسَبٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرَ لَأَسْقَطْنَا دِيَةَ مَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ ذَا قَرَابَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِاقْتِضَاءِ الظَّاهِرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كَوْنِهِ ذَا قَرَابَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ دَمِهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ أَوْ الْقَوَدِ إذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُهَاجِرْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ خَطَأُ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يُوجِبْ الدِّيَةَ؛ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ؛ إذْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَوْجَبْت الدِّيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُؤْمِنُ مُرَادًا بِالْمُؤْمِنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إيجَابُ الدِّيَةِ وَالرَّقَبَةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ نَعْطِفَهُ عَلَيْهِ وَنَشْرِطُ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَنُوجِبُ فِيهِ الرَّقَبَةَ وَهُوَ قَدْ أَوْجَبَهَا بَدِيًّا مَعَ الدِّيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: «أَعْطِ هَذَا رَجُلًا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَأَعْطِهِ» هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ حَكِيمٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْأَوَّلِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السَّنَةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تُرَاءَى نَارَاهُمَا».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَقَامَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ أَوْ قَالَ: لَا ذِمَّةَ لَهُ»؛ قَالَ ابْنُ عَائِشَةَ: هُوَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ فَيُقِيمُ مَعَهُمْ فَيَغْزُونَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَلَا دِيَةَ لَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
وَقَوْلُهُ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ» يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَلَمَّا أَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ كَانَ مَشْكُوكًا فِي أَنَّهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبَرَّعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ وَاجِبًا لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى نِصْفِهِ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ: أَتَانِي أَبُو الْعَالِيَةِ وَصَاحِبٌ لِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بِشْرَ بْنَ عَاصِمٍ اللَّيْثِيَّ، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ حَدَّثَ هَذَيْنِ فَقَالَ بِشْرٌ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مَالِكٍ اللَّيْثِيُّ وَكَانَ مِنْ رَهْطِهِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيَّةً فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ، فَشَذَّ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ السَّرِيَّةِ وَمَعَهُ السَّيْفُ شَاهِرَهُ، فَقَالَ الشَّاذُّ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَنَمَا الْحَدِيثُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، فَقَالَ الْقَاتِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ إلَّا تَعَوُّذًا مِنْ الْقَتْلِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا تُعْرَفُ الْمُسَاءَةُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيمَانِ الْمَقْتُولِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا لَمْ يُهَاجِرْ بَعْدَ إسْلَامِهِ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إلَى الْحُرُقَاتِ فَنُذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا، فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا، فَلَمَّا غَشَّيْنَاهُ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَذَكَرْته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ، قَالَ: أَفَلَا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا؟ مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى أَنِّي وَدِدْت أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إلَّا يَوْمَئِذٍ».
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا.